لاجئون تحت الأنقاض النفسية.. حين تصمت القنابل ويتكلم الصمت القاتل

لاجئون تحت الأنقاض النفسية.. حين تصمت القنابل ويتكلم الصمت القاتل

تفاقمت الأزمات النفسية في أوساط اللاجئين بشكل غير مسبوق، وسط تجاهل شبه كامل من برامج الإغاثة الإنسانية، فعلى الرغم من صخب الحرب وضجيج القنابل، تبقى المعاناة النفسية جرحًا صامتًا لا يُرى، لكنه يتغلغل في أرواح الملايين، ويهدد مستقبل أجيال بأكملها، إن تُرك بلا علاج.

تراكمت الأزمات في ذاكرة اللاجئين، حيث لا تقتصر المأساة على الجوع أو التشريد، بل تمتد إلى أعماق النفس، حيث يعجز كثيرون عن التعبير أو طلب المساعدة. فأصواتهم لا تصل إلى نشرات الأخبار، ومعاناتهم لا توثقها الكاميرات، بل تتسرب من العيون المنطفئة، وتُروى من خلال الصمت الثقيل.

وكشفت المفوضية السامية لشؤون اللاجئين في تقرير صادر في يونيو 2024، أن 22% من البالغين اللاجئين يعانون اضطرابات نفسية حادة تشمل: الذهان، والوسواس القهري، والانفصام، وهي حالات تحتاج إلى تدخلات متخصصة غير متوفرة في أغلب المخيمات.

وسُجّل كذلك أن 45% من اللاجئين يعانون الاكتئاب، وهو ليس حالة مزاجية عابرة بل شلل نفسي يومي يعوق الحياة الطبيعية، فيما يواجه ثلثهم تقريبًا نوبات قلق مزمن، تترافق مع الأرق، تسارع نبضات القلب، وأفكار سوداوية.

تجاوزت نسبة المصابين باضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) 28%، حيث لا يستطيع المتضررون محو مشاهد القصف أو فقد الأحبة. أما في المخيمات ذات الكثافة العالية مثل كوكس بازار أو شمال غرب سوريا، فترتفع النسب إلى 39% و58% على التوالي، ما يجعل الوضع أقرب إلى الكارثة المستمرة.

غياب الدعم النفسي

أظهرت البيانات أن 85% من مخيمات اللاجئين تفتقر إلى أي برنامج نفسي منتظم. فلا أطباء، ولا علاجات، ولا حتى جلسات دعم جماعي يمكن أن تسهم في التخفيف. في بعض المخيمات، هناك طبيب نفسي واحد لكل 50,000 لاجئ، ما يجعل الرعاية شبه مستحيلة.

وأفادت منظمة اليونيسف بأن 92% من اللاجئين الذين يحتاجون لأدوية نفسية لا يتلقونها، إما لانعدام الدواء، أو لانشغال الجهات الطبية بمعالجة الإصابات الجسدية، ففي مخيم الزعتري، يخدم 3 أطباء فقط أكثر من 80,000 لاجئ. أما في جنوب السودان، فالطبيب الواحد مسؤول عن 120,000 نازح.

تأثرت الطفولة اللاجئة بأعنف الطرق. فقد أكدت تقارير اليونيسف أن 91% من الأطفال اللاجئين يعانون أعراض اضطراب ما بعد الصدمة، لا ينامون بسهولة، يخافون من الريح، ويتهربون من الكلام. أما دراسات "لانسيت"، فأشارت إلى أن 48% من الأطفال أظهروا ميولًا انتحارية.

وسُجّلت ثلاث محاولات انتحار أسبوعيًا لأطفال دون سن 12 في مخيم كوكس بازار، ففي لبنان، يعاني 78% من أطفال اللاجئين السوريين من صعوبات تعلم ناتجة عن الصدمة النفسية، وفق دراسة من جامعة هارفارد.

وأوضحت دراسات صادرة عن جامعة أوكسفورد أن متوسط انتظار اللاجئ لقرار اللجوء هو 5.7 سنوات، يعيش خلالها تحت الخيام في حالة ترقب قاتلة، وأظهرت الأبحاث أن معدلات الاكتئاب ترتفع بنسبة 72% خلال هذه الفترة.

وسُجّلت 34 حالة انتحار لطالبي لجوء في أستراليا عام 2023، معظمهم تجاوزوا خمس سنوات من الانتظار دون رد. البيروقراطية هنا لا تقتل بالرصاص، بل بالبطء، بعدم اليقين، وبالتهرب من الاعتراف.

الصحة النفسية ضحية الإهمال

خصصت برامج الإغاثة الإنسانية 2.3% فقط من ميزانياتها للصحة النفسية، وفقًا لتقارير مجموعة الصحة النفسية المرجعية، كما يحصل لاجئ واحد فقط من كل 300 على دعم نفسي متخصص.

وبيّنت الأرقام أن 80% من البرامج الأممية تدمج الصحة النفسية بشكل سطحي، دون كوادر مدرّبة أو خطط متابعة. في اليونان، حيث يعيش نحو 42,000 لاجئ، لا توجد سوى أربعة مراكز للصحة النفسية، تغطي أقل من 5% من الحالات.

وأثبتت الدراسات أن الاضطرابات النفسية بين اللاجئين تستمر حتى بعد انتهاء النزاع أو العودة. ففي رواندا، وبعد ثلاثين عامًا من المجازر، لا يزال 45% من الناجين يعانون اضطرابات ما بعد الصدمة.

وأكدت دراسة من جامعة بيرزيت أن أحفاد لاجئي 1948 يعانون اضطرابات نفسية بمعدلات تفوق بثلاثة أضعاف المعدلات العالمية، ما يؤكد أن الألم النفسي قد ينتقل بالوراثة الثقافية والاجتماعية.

وقدّرت تقارير البنك الدولي أن كلفة إهمال الصحة النفسية تفوق بخمسة أضعاف كلفة علاجها المبكر، ما يجعل التجاهل ليس فقط خطرًا أخلاقيًا، بل قرارًا اقتصاديًا كارثيًا.

واقترح خبراء الصحة النفسية رفع مخصصات العلاج النفسي في ميزانيات الإغاثة إلى 10% على الأقل، كخطوة لبناء نظام علاجي فعّال، كما دعوا إلى تدريب 1% من اللاجئين ليصبحوا داعمين نفسيين أوليين في مجتمعاتهم.

وأوصى المتخصصون أيضًا بإنشاء شبكات دعم نفسي مجتمعية وتفعيل برامج للصحة النفسية في المدارس داخل المخيمات، لحماية الأطفال ومنع تحوّل الصدمة إلى مرض مزمن.

اللاجئون تحت الضغط النفسي

شدد الخبير النفسي الدكتور جمال فرويز، الذي عمل لسنوات طويلة في الدعم النفسي بالمناطق المنكوبة مثل السودان والعراق وأفغانستان، على الأثر النفسي العميق الذي تتركه الحروب والكوارث الجماعية على الأفراد، ولا سيما اللاجئين الذين يُجبرون على اقتلاع جذورهم ومواجهة مصير غامض خلف الأسلاك الشائكة. 

وأوضح الدكتور فرويز في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن طبيعة الاضطرابات النفسية تختلف باختلاف نوع الضغط الواقع على الفرد، فحين يكون الضغط نفسياً شخصياً، فإن شدة الاضطرابات غالباً ما تكون أعلى، في حين أنه في الحالات الجماعية -كالحروب أو الكوارث- فإن نسبة التماسك الظاهري بين الناس تكون أكبر، حيث يحتفظ كثيرون بقوة ظاهرية إلى أن تمر الأزمة أو تنتهي على الأقل.

وأشار إلى أن بعض اللاجئين، وخصوصاً الأطفال، تظهر عليهم الأعراض بشكل مبكر بسبب عوامل وراثية واستعداد بيولوجي للإصابة بالاضطرابات النفسية. هؤلاء، كما قال، يعانون أعراضًا شديدة مثل اضطرابات النوم، والخوف المفرط من الأصوات المرتبطة بالحرب، والكوابيس، واللثغة أو التلعثم في الحديث، وتشنجات في عضلات الرقبة وأسفل الظهر، بالإضافة إلى آلام حادة في البطن والمعدة قد تتطور في بعض الحالات إلى التبول اللاإرادي، لا سيما بين الأطفال.

ولفت الدكتور فرويز إلى أن الأمراض النفسية في مثل هذه الحالات لا تظهر دائماً في أثناء الحدث ذاته، بل تتأخر في كثير من الأحيان، ولا يبدأ تفكك الحالة النفسية إلا بعد زوال الخطر أو الانتقال إلى بيئة آمنة نسبياً، حينها تبدأ الصدمات في الظهور على السطح. وأوضح أن النسبة الطبيعية للأمراض النفسية تراوح بين 1 إلى 3% من السكان، إلا أنها قد ترتفع لتصل إلى 6% أو أكثر في المجتمعات التي تعرضت لصدمات عنيفة أو لفترات طويلة من عدم الأمان.

وأكد أن الرغبة في الانتقام، وفقدان الشعور بالأمان، والفراغ العاطفي الناتج عن فقدان الأهل والأحبّة، من أبرز تداعيات الفقد الجماعي، خاصة على الأطفال الذين تتشكل ذاكرتهم في بيئة مليئة بالعنف والانهيار. وأشار إلى ضرورة عدم اختزال الحاجة فقط في "العلاج النفسي"، بل في "الدعم النفسي الشامل"، والذي يتضمن الرعاية اليومية، وتوفير الغذاء والماء واللعب للأطفال، بهدف مساعدتهم على استعادة الشعور بالواقع والانتماء.

وختم حديثه، قائلاً: "الصحة النفسية في مناطق الحروب لا تحتاج فقط لأطباء، بل لنظام دعم متكامل يراعي الإنسان في هشاشته، ويمنحه مساحة ليعيد بناء ذاته وسط الركام".

اللجوء لا يلغي الإنسانية

ويرى الدكتور فتحي قناوي، أستاذ كشف الجريمة بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، أن خلف كل تجربة لجوء قصة إنسانية معقدة تتشابك فيها دوافع الرحيل وظروف الاستقبال، فتتباين تبعاً لها الآثار النفسية والاجتماعية بشكل عميق.

وأشار قناوي، في تصريحات لـ"جسور بوست"، إلى أن من يختار الهجرة طوعًا لتحسين ظروفه المعيشية يظل أكثر قدرة على التكيف النفسي، رغم ما يمر به من اضطراب عاطفي أو شعور بالغربة، أما من يُجبر على اللجوء هرباً من الحرب أو الاضطهاد، فغالباً ما تتشكل لديه حالة من الاكتئاب المركب، حيث يفقد القدرة على التطلع للمستقبل أو حتى الرغبة في التكيف، إذ يتحول إلى فرد مغلوب على أمره، محاصر ببيئة قسرية، بلا أمل ولا وضوح في المصير.

وتزداد الأزمة تعقيداً عندما يكون اللاجئ معرّضاً لسوء المعاملة، أو مهمشاً في أماكن اللجوء، حيث يُمنع من العمل، ويُحرم من حقه في بناء أسرة أو ممارسة حياة طبيعية. مثل هذه الضغوط، بحسب قناوي، تُحدث تشوهاً في بنيته النفسية والجسدية والاجتماعية، وتؤدي إلى خلل في علاقاته الأسرية واستقراره الذاتي، ما قد يفتح الطريق أمام سلوكيات خطِرة كالعنف أو الجنوح أو حتى محاولات الانتحار.

ويؤكد قناوي ضرورة التعامل مع فئة اللاجئين العالقين -أي أولئك الذين لا هم قادرون على العودة إلى أوطانهم ولا تم دمجهم فعلياً في البلدان المضيفة- باعتبارهم فئة حساسة جداً. ويتطلب الأمر استراتيجية إنسانية دقيقة توازن بين الدعم النفسي والتأهيل الاجتماعي، تهيئهم للعودة أو الاندماج، دون إشعارهم بالرفض أو العزل، لأن التهميش يولّد الغضب، والغضب -في غياب الحاضنات الإنسانية- يتحول إلى عنف.

ويرى قناوي، أن التعامل مع اللاجئ يجب ألا يُختزل في إجراءات أمنية أو لوجستية، بل يجب أن يتم عبر منظومة متكاملة تشمل خبراء في الصحة النفسية والسلوكية، واختصاصيين اجتماعيين، يفهمون أبعاد الهشاشة ويعيدون بناء الإنسان من الداخل.

وقال قناوي، إن الأطفال هم الأكثر عرضة للانكسار النفسي في معسكرات اللجوء. ويقول أيضًا إنهم غالباً ما يعيشون في بيئات غير آمنة -كالمراحيض الجماعية والاختلاط العشوائي- ما يفتح الباب أمام ظواهر مؤلمة مثل التحرش والعنف، ويجعل من الصعب على الطفل أن يعيش طفولة طبيعية، داعيًا إلى تبني أنظمة إسكان تراعي الخصوصية الأسرية وتقلل من التكدس، حتى لا تتحول ملاجئ الأمان إلى ساحات للاضطراب.

وشدد قناوي على أن الدعم النفسي لم يعد رفاهية، بل ضرورة أمنية واجتماعية وإنسانية، تمهد الطريق نحو إعادة تأهيل اللاجئ كفرد منتج ومتوازن، بدلاً من أن يكون ضحية جديدة على هامش العالم.

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية